الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012

سواح .. قصة قصيرة


اعتاد التسكع في شوارع مدينته بعد الثانية عشر صباحا حيث الشوارع تخلو إلا من قليل من الناس الذين كانوا في الغالب يجلسون على المقاهي عائدون إلى بيوتهم أو من أصحاب المحلات الذين أغلقوها مرهقين مقررين إنتهاء العمل اليوم.
اعتاد ان يدلف شوارع مدينته الصغيرة فيما لا يتجاوز الساعتين. يكون قد انتهي منها من اقصاها إلى أدناها.

أغلب الشوارع متماثلة فهي ضيقة ، يحدها المنازل على الجانبين ، ذات أرض رملية يترك آثار اقدامه عليها حتى الصباح شاهدة على مروره من هناك.
لا يعرف لماذا اكتسب تلك العادة ولا منذ متى بالتحديد ولا يعرف هل كانت ممتعة بالنسبة له أم لا ؟
هو كان يخرج ليلا ولا يدري فيما يفكر واضعا يديه في جيوبه ومطأطئ رأسه لأسفل وراسما علامات اللامبالاة على وجهه.
ربما صادف في طريقه احدى السيدات التي تجلس مع زوجها امام البيت هاربين من حر الصيف ويتسامرون فيلقي عليهم التحية ويمضي.
أو صادف ذلك المجنون الذي تشتهر به مدينتهم يسب ويلعن الحاكم والحكومة بأقظع الشتائم ويستغرب كيف يعدونه مجنون؟! ومما يزيد استغرابه منهم هو حكايته فهذا الرجل كان يعمل بهولندا وعند قدومه مصر احتجزته الشرطة ومنذ خرج وهو على تلك الهيئة ولا احد يعلم ماذا حدث له !
كل هذا يعتمل في صدره عند رؤيته مما يدفعه مبتسما لإلقاء التحية عليه فيجيبه بمنتهى الهدوء ثم يبادره سائلا عن سيجارة يدخنها ولا يأخذ أكثر من واحدة ولا يأخذ مالا يزيد عن حاجته. فمثلا عندما يعطيه احدهم احدى المساعدات يأخذ ملبس واحد فقط وزوج حذاء واحد فقط وعندما يطلب من أحد فيما ندر شربة ماء يشرب كوب واحد فقط.

يحيره هذا الرجل كثيرا أو بالأحرى هناك شيئا فيه يدفعه لإحترامه ، فهو لم يفقد إنسانيته ولا يدري عما حوله غير فساد الحاكم والحكومة إذاً ماذا ينقصه ليصبح انسانا سوي ؟!

المدينة ليلا اشبه بالمقابر ، لا صوت ولا حركة وهناك شوارع معتمة تماما من أي إنارة. دنو الشبابيك من الشارع يجعلك عند مرورك تسمع شخير أهلها وهم يغطون في نوم عميق مما يجعله يبتسم عندما يجد سخرية والده منه صحيحة تماما عندما كان يخبره بان شخيره سيجلب لهم أحد اللصوص يوما ما.

أهل المدينة هم دليل حياتها. حيث توجد الحركة والأعمال تشعر بالود والألفة وحيث يغلقون عليهم بيوتهم تفترسك الوحشة والشعور بالحزن وتتمنى أن يتنفس الصباح سريعا.
يختتم جولته دائما في الشارع الرئيسي. فمدينته كأي شيء آخر يعرفه ، الجمال يطفو على السطح بينما كل ما توارى عن الأعين ركام.
عندما يكون مزاجه رائقا يغني إحدى الأغاني القديمة الملائمة أكثر مع جولاته. فما يراه لم يعرف أي حداثة ولا ميوعة ولا حتى التغيير السريع. فأغنية مدتها لا تزيد عن أربع دقائق لم تكن تلائم ابدا طابع المدينة الذي يشهد تغيرا بطيء على مدار سنوات.
بينما هو يسير مغنيا " سواح وماشي في البلاد سواح والخطوة بيني وبين حبيبي براح مشوار بعيد وانا فيه غريب والليل يقرب والنهار رواح " مر بجانبه شخص فحياه جريا على العادة فأجابه بإيماءة من يده وتوجه إليه مدندا " وأنا ماشي ليالي سواح ، ولا داري بحالي سواح ، من الفرقة يا غالي سواح ، إيه اللي جرالي سواح " .

أكمل طريقه سعيدا ولا يدري لماذا خطر على باله إنه حتى الان لم يتعرف على إحدى بنات مدينته ولا يعرف كيف يصفهن تحديدا. إنه حتى الان لم تمس قلبه إحداهن. كيف ستغدو هذه الأغنية بالنسبة له عندما يهيم في شوارع المدينة وهو يفكر في إحداهن ، هل ستطبق عليه الشوارع من الحيرة أم ستفتح له المدينة أبوابها ؟ هل يعكس وجه المدينة قلوب أصحابها ؟!

ياليته يجرب هذا الإحساس ، ياليته يعرف إحدى الجميلات ، فهو يماثله القول الدرويشي " الجميلات هن البعيدات مثل أغاني الفرح "