الخميس، 23 أغسطس 2018

يوم الأرض


دائماً أعود إلى "التغريبة" التي كتبها سميح القاسم إلى محمود درويش في رسائلهم المتبادلة والتي أصبح الجميع حينها ينتظر قرائتها ونشرها. أعود إليها بدئاً من الاسم وإحساس المنفى والإغتراب. في أي بلد زاروها يحملون معهم وطنهم فلكل مدينة وجهان ولابد أن يكون أحدهم هو وجه لحيفا. "لباريس وجهان / وجه لحيفا / لتونس وجهان / وجه لحيفا / لبيروت وجهان / وجه لحيفا / للندن وجهان / وجه لحيفا " .. " ونحن غريبان / ونحن غريبان / ونحن غريبان ".
 يحملان الوطن ويحملان المكان الذي لك ويضرب جذورك في 
الأرض وحين يغيب أينما وطأت وأينما أقمت فلا أرض لك ولا جذور ولا أنت مقيم مهما سكنت. تحمل ذكرياتك معك فكل إيماءة تذكرك ببيتك بأهلك بقصة عشتها بمكان صنعت فيه الذكريات وحين لا تستطيع العودة تظل في هروب دائم، اغتراب في الأرض واغتراب عن النفس.
 درويش يقرئ سميح السلام إلى بلدتهم البروة فيرد سميح: " ولو خبطت نفسي متلبساً بالنظر صوبها فإن عقرباً صفراء هائلة تلسعني في القلب مباشرة وبلا رحمة وتنغص علي رحلتي" .. حلم العودة وحلم الأرض فالمكان هو المكيدة مهما تنصلنا من سيطرته علينا ستظل الغربة تسري وتسري لا يبددها إلا العودة. أن لنا الأرض وهذا مكاننا فلا نعرف أنفسنا إلا من خلاله مهما حاولنا الإدعاء. " يفرقنا العالم العربي / ويجمعنا العالم الأجنبي / ونبقى أجانب في العالمين / ويبقى الرحيل ..... "

عن بسكاليا وإيملي بولان وفرانسيس ها

بينما أستمع إلى البلاي ليست أفاجئ ببسكاليا راجح داوود تقتحم الترتيب وتلعب كنت لأضحك : وأنا مالي يا لمبي هي اللي اشتغلت لوحدها ولكني لم أستمر مطولاً لأنها سحبتني إلى عالمها ككل مرة. تلك المقطوعة تجعلني أستعيد شعوري الممزق بين عالمين، عالم الحنين لكل ماهو أصيل وقديم وتم حجبه في ذاكرتنا بأنه بسيط وطيب وعالم الحالي عالم الحركة والاستمرارية والمضي قدماً إلى الأمام وإلى الأمام وإلى الأمام. عالم الحلم والنظرة المتعجلة لما سيحدث غداً وعالم الغد الذي خاب فيه جل آمالنا. هل كان علينا أن نصطدم بكل تلك الحقائق دفعة واحدة؟ هل كان علينا أن نحمل كل هذا الغضب؟
جميع أفلامي المفضلة تنتمي أيضاً لكلا العالمين. في عالم الشر أبحث عن الشخصية التي لم تتحول إلى واحد منهم أو من امتلك هذا القلب الذي لم يمت كلياً ويحمل ذكرياته معه منغلق عليها لئلا ترديه نقطة ضعفه قتيلا أو تكون هي من فعلت ذلك أو أبحث عن من امتلك المنطق لتبرير أفعاله فعلى الأقل جاوب على اسئلتي أخيراً. وبين شخصيتي "إميلي بولان" و"فرانسيس ها" أعرف جيداً لماذا أحببتهم بشدة، الخفة والثقل كلا منهما يكتسي برداء الأخر فلا الخفة محتملة ولا الثقل أيضاً. إميلي التي امتلكت الشغف والطفولة والبراءة ولكن لم يمنعاها من تجريب خيبة الأمل وفرانسيس طحنها الواقع بردائته وصوره المكررة الرديئة ومحاولتها لتجد شغفها ولتعرف ماذا تريد فتنطلق كحمقاء في نظر من يعرفها إلى أن تثبت نفسها أخيراً ولا تفقد أصالتها. لالا لاند وهل هو غير هذين العالمين ؟ الصور البراقة هوليوود المعلبة البحث عن كل ماهو سريع وجاذب المبهر في طلته وحلم بين شخصين شديد الكلاسيكية والرومانسية يضغط عليهم الواقع أوالتمسك بالحلم، كل منهم يمد اليد للآخر بأنك ستكون يوما ما تريد. كل منهم يمنح الأمان لشريكه بإدخاله عالم الأحلام ومساحة الأمان لكن لا تسير الأمور كما مقدر لها لأن لابد من دفع ضريبة الحلم في زمن عز فيه الأحلام في حياة قاتلة ضاغطة لكل نهاية مثالية أو إنه لا توجد نهاية مثالية عليك الاستيقاظ لأن هذا الحلم سيقبع في عالم الحنين، سيكون عليك استعادته كذكرى جميلة وككل الأوقات الجميلة ستكون ذكرى مفجرة للحنين والإمتنان.
أعظم الحفلات هي التي حضرتها وحدي وبكيت فيها وحدي وخرجت أحمل قلب ممتلئ بخفة بعد أن تحرر قليلا من الثقل. أعظم الأفلام هي التي شاهدتها وحدي وبكيت فيها وحدي ولم اكن مضطرة لشرح لماذا أحببتها بشدة وأنني شاهدت نفسي على الشاشة وأني لست وحدي الآن فهناك من عايش هذا غيري.
تحمل في قلبك الحب والأمل ولكن تجد أنهم أصبحوا العبء في قلبك وتجاوروا مع القسوة واليأس وتمضي ملتمساً طريقاً باحثاً عن النور لعلك تنجو.
أتمنى عندما أذهب إلى النوم أخيراً أحمل تلك النظرة على وجه ايزاك في المشهد الأخير نهاية فيلم wild strawberries نظرة الرضا الأخيرة عن كل ما كان، لا يشوبه مسحة الأسى ولا تلك الغصة بأنه كان بوسع كل هذا ألا يحدث أبداً، كان بوسع هذا الألم ألا يكون.

الأحد، 8 أبريل 2018

وداعاً ريم بنا ..

"سافر وخدني معك بفطر على دُقة، بصبر على الجوع ما أصبر على الفرقة" ..
 يذكرني رحيلك يا ريم بتلك الأغنية كثيرا. تلك الأغنية التي حفرت مكانها في الذاكرة كشاهدة على وقت ولى وككل الأوقات الجميلة تنتهي، ككل الأوقات تنتهي. يذكرني رحيلك يا ريم بهذه الأغنية في تلك الحفلة التي كلما تذكرتها اسمع صوت الشاب الذي يجلس خلفي ينادي عليكي بأعلى صوته " بنحبك يا رييييييم " وتضحكين ونضحك جميعا. حضوري حفلتك في هذا الوقت كان ككل شيء جميل أخر يحدث حينما كان القلب مازال أخضر ويملك الحماسة لتحقيق ما ير
يد. فعلت كل ما في استطاعتي لاتمكن من الحضور واتمكن من المبيت واستطعت فعلا وحققت ما أريد.
 أذكر اندهاشي بحضورك القوي وصوتك الأقوى وامتلاكك مسرح المكتبة كنتي تملأينه وكنت منبهرة من هذا الحضور فمن يستطيع أن يملأ تلك السعة! أنتِ فعلتي وخطفتي قلوبنا وأبصارنا.
 كان كل شيء مكتمل كلوحة لا ينقصها شيء. لم يكن صوتك كأي غناء يتمايل معه الحضور كان صوتك تظاهرة نردد خلفها. كنتِ تدعونا لشيء آخر غير قضاء وقت لطيف كنتِ تأججين حماسة تشتعل وتشتعل وأجزم اني ابداً لم أكن مخطئة. فهناك ذلك الشاب بعد انتهاء الحفلة ليحتفي بك أشعل "شمروخ" داخل قاعة المكتبة لنجد الأمن يهرولوا مسرعين للسيطرة على الأمر. لم يكن احساسي كذب. أعطوكي علم فلسطين فأخذتيه بفخر شديد وتدثرتي به. كأنك تدثرين بالوطن، وهل الوطن غير هذا؟ رمزية بسيطة جسدتي بها كل ما نشعر به تجاه أوطاننا حتى وإن لفظتنا.
 أعود إلى أغنيتك يا ريم وقت كانت الحياة فعل انتظار لكل ما هو آتٍ بحماسة وإمكانية حدوثه ولكنه الآن وعندما وصلنا لزمن الانتظار لم نجد "من ينتظرنا على السفح ويدعونا لصلاة شكر لأننا وصلنا سالمين لا متفائلين ولا متشائمين". أتذكرك يا ريم ك اسم مرادف لفعل قاوم وأخبرك إنني مازلت مع كل رحيل امتلئ بالغضب أكثر من هذه الحياة التي تكسر الأقوياء واني مازلت احمل تلك الطفلة بداخلي التي لا تستطيع بعد أن تفهم كيف يموت أبطالها الخارقين.
 (6 ديسمبر 1966 - 24 مارس 2018)

الاثنين، 17 أبريل 2017

أبي طويل الساقين / صاحب الظل الطويل

" على الأقل يعتبر الحنين إلى البيت من الأمراض التي استطعت تجنبها، فأنا لم أشعر من قبل عن شخص شعر بالحنين إلى الملجأ " ....

" الشيء الوحيد الذي يعيب الدراسة في الكليات هو أنه من المفترض أن تعرف كل شيء، هذا يؤدي إلى ارتباكي في بعض الأحيان " ....

" هل تعلم يا أبي أن اللعب هو الذي يشق علي وليس العمل. فأنا لا أفهم نصف الوقت ما تتكلم عنه البنات، فنكاتهن تبدو كأنها تتعلق بماضٍ شاركت كل منهن فيه بنصيب ما عداي. إنني غريبة عن هذا العالم ولا أفهم لغته " ....

"وضعت لنفسي قاعدة، هي أن لا استذكر دروسي ليلا مهما كانت مطلوبة وملحة. بدلا من ذلك، سأقرأ كتبا خفيفة. أنا مضطرة لذلك لأنه يوجد خلفي ثمانية عشر عاما بيضاء. إنك قد لا تصدق يا والدي أن عقلي يسبح في بحر من الجهل " ....

" أردت هذه الليلة أن أكتب لك خطابا لطيفا مبهجا مسليا، لكن النوم يغالبني، كذلك ينتابني شعور جارف من الخوف. فالمستجدون دائما في خوف مقيم " ....

" دونما أشعر تنطلق الكلمات من فمي سريعا عندما أشعر بالدهشة. والدهشة تتملكني طوال الوقت. إنها تجربة مذهلة يا والدي أن تقضي ثمانية عشرة سنة في الملجأ ثم فجأة تجد من يدفعك قسراً لتواجه العالم " ....

" إنني في الحقيقة وحيدة وظهري ملتصق بالحائط، أحارب العالم كله، وأشعر بأن أنفاسي تقصر وأعاني اللهاث عندما أفكر في هذا " ....

" أعتقد أن كل شخص يجب أن تتوفر له طفولة سعيدة مهما كان مقدرا عليه أن يواجه الصعاب والمتاعب عندما يكبر، وذلك لكي يرجع بذكراه إليها ويجد السلوى فيها. إن كان حظي أن أنجب أطفالا في يوم من الأيام فإنني لن أدعهم يهتمون لشيء حتى يكبروا ويواجهوا الحياة بأنفسهم." ....

" يخيل إلي أن أي انسان يمكنه أن يتمسك بآرائه طوال سبع وأربعين سنة بدون أدنى تغيير، يجب أن يحفظ في متحف خاص كشيء مثير للفضول " ....

عندما تعتاد على أشخاص معينين أو حتى أماكن أو طرق معينة للحياة ثم تنتزع منك انتزاعا فإن هذا يترك مكانها إحساسا فظيعا مؤلما " ....

" لكي تجعل شخصا ما يتصرف بشكل منطقي فهناك طريقتان لا ثالثة لهما؛ إما أن تتملقه أو أن تكون غير ودي في معاملته. أنا أكره التملق لأحصل على ما أريد لذا أنا مضطرة اضطرارا إلى أن أكون غير لطيفة في معاملاتي معك " ....

" أعتقد أن ما يهم الانسان ليست الأفراح الكبرى لكن المسرات والمتع الصغيرة التي تصنع الشيء الكثير، لقد اكتشفت السر الحقيقي للسعادة يا والدي؛ وهو أن تعيش من الآن وتهتم فقط باللحظة الحاضرة. لا تندم على الماضي أو تعمل حسابا للمستقبل، لكن عليك أن تحصل على أكثر ما تستطيع من هذه اللحظة الحاضرة التي تعيش فيها. سأحاول أن أسعد بكل ثانية في حياتي؛ وسأعرف أنني أتمتع بها أثناء تمتعي بها فعلا. إن معظم الناس لا يعيشون، إنهم يتسابقون ويجرون، إنهم يحاولون الوصول إلى هدف يلوح بعيدا في الأفق، ومن خلال الجري ولهاث الأنفاس يفقدون كل قدرة على الرؤية الصحيحة للأرض الجميلة الهادئة التي يمرقون خلالها؛ ثم بعد ذلك فإن أول شيء يدركونه ويحسون به فعلا هو أنهم يلغوا أرذل العمر وأن التعب قد أضناهم ولا يهم بعد ذلك إذا كانوا قد بلغوا أهدافهم أم لا. إنني قررت أن أجلس وأتمهل في الطريق وأنهمك في جمع وتكويم نتف من المتع الصغيرة حتى ولو لم أصبح كاتبة كبيرة" ....

" إن الحياة في أحسن أحوالها تعتبر فظيعة، فأنت مضطر إلى أن تأكل وتشرب وتنام، لكن تخيل كم تبلغ فظاعتها إذا لم يحدث لك شيء غير متوقع بين وجبات طعامك" ....

" الإنسان لا يفتقد الأشياء التي لم يمتلكها من قبل أبدا، لكنه من الصعب عليه أن يعيش بدون الأشياء الذي يؤمن بأنها ملكه بموجب حقوقه الطبيعية. وتعتبر معيشتي مع سالي وجوليا عبئا رهيبا في فلسفتي اللامبالية، فإنهما تملكان منذ كانتا طفلتين صغيرتين؛ هما تتقبلان السعادة والتمته كأمر مفروغ منه؛ وتعتقدان ان العالم يدين لهما بكل شيء ترغبان فيه. ربما كان العالم فعلا مدينا لهما بكل شيء؛ وهو يعلم هذا ويسدد دينه بكل رحابة صدر وسرور. أما بالنسبة لي فهو ليس مدينا بشيء. وقد أخبرني بذلك منذ البدايةوبشكل حازم وباتٍ. لذا فليس من حقي أن أقترض منه على الحساب لأنه سيأتي الوقت الذي سينكر فيه إدعائتي ومطالبي " ....

" ألا تعتقد أنه من المسلي ان يتيسر لك أن تطلع على تاريخ حياتك مكتوبا بطريقة متقنة يشع من ثناياها الصدق بيد كاتب ماهر عليم بكل خفايا حياتك؟ ولو فرض واستطعت أن تقرأه، فإنك بالطبع لن تنسى شيئا وسوف تواصل حياتك وأنت تعلم مقدما نتيجة كل فعل تصنعه، كذلك سوف يتسنى لك أن تعرف الساعة والدقيقة التي يحل فيها أجلك. من هم في رأيك الذين يمكنهم التغلب على فضولهم بما فيه الكفاية ليمتنعوا عن قراءة تاريخ حياتهم؟ ومن هم الذين تتملكهم الشجاعة الكافية لفعل ذلك؛ علما بأنهم معرضون لأن يعيشوا حياتهم بلا أمل او مفاجآت ؟ " ....

" كم وددت لو عرفتك، حينئذ عندما نشعر بالتعاسة فإنه بإمكاننا أن نعزي بعضنا بعضا " ....

" نحن نشعر سويا وفي نفس اللحظة أن هذا وذاك مضحك، هذا يعتبر في رأيي كافياً لأنني أعتقد أنه من الفظاعة أن لا يتفق شعور اثنين تجاه الإحساس بالفكاهة والمرح هو أيضا " ....



الخميس، 1 أكتوبر 2015

" بيدرو بارامو " .. خوان رولفو


" منذ سنوات عديدة لم أرفع وجهي، حتى اني نسيت السماء. ولو أني فعلت ذلك. فما الذي سأكسبه ؟ فالسماء عالية جدا وعيناي ضعيفتان، وكنت أعيش سعيدة لأني أعرف أين هي الأرض. وعلاوة على ذلك فقد فقدت كل اهتمام بالسماء منذ أكد لي الأب رينتيريا بأنني لن أعرف الجنة أبدا. بل ولن أستطيع حتى رؤيتها من بعيد. كان هذا بسبب خطاياي. ولكن ما كان عليه أن يقول لي ذلك، فالحياة تعاش بالأعمال والأمر الوحيد الذي يمكّن احدانا من تحريك قدميها هو الأمل بان ينقلوها بعد الممات من مكان إلى أخر. ولكن عندما يغلقون أمامها باباً ولا تبقى مفتوحة إلا بوابة الجحيم فخير لها لو انها لم تولد.
إن السماء يا خوان بريثيادو هو هنا حيث أنا الآن.

- وروحك أين تظنين أنها ذهبت ؟

- لأبد انها تهيم على الأرض مثل أرواح كثيرة اخرى، تبحث عن أحياء ليصلّوا من اجلها. ربما إنها تكرهني للمعاملة السيئة التي عاملتها بها، ولكن هذا لا يقلقني. لقد استرحت من عادتها الذميمة بالتأنيب. فقد كانت تملأ بالمرارة حتى القليل مما كنت اكله، وتجعل ليالي لا تطاق وهي تملؤها بأفكار مقلقة عن صور لمحكومين بالعذاب الأبدي وأشياء من هذا القبيل. وعندما رقدت لأموت رجتني أن أنهض واتابع جرجرة الحياة وكأنها ما تزال تنتظر معجزة ما تنظف خطاياي. لكنني لم اكبد نفسي ولو مشقة المحاولة. وقلت لها : “ هنا انتهت الطريق. وما عادت لدي قوة للمزيد ”
وفتحت فمي لتخرج منه ومضت، وأحسست بخيط الدم الذي كانت ترتبط به إلى قلبي وهو يسقط من يدي "

الأحد، 24 مايو 2015

يوسا .. لماذا نقرأ الأدب ؟

ترجمة : راضي الشمري
مراجعة : فيصل الحبيني

لماذا نقرأ الأدب؟
----
دائمًا ما يأتيني شخص حينما أكون في معرض كتاب أو مكتبة، ويسألني توقيعًا. إما لزوجته أو ابنته أو أمه أو غيرهم، ويتعذر بالقول بأنها ” قارئة رائعة ومحبة للأدب”. وعلى الفور أسأله: “وماذا عنك؟ ألا تحب القراءة؟”، وغالبًا ماتكون الإجابة: “بالطبع أحب القراءة، لكني شخص مشغول طوال الوقت.”.
سمعت هذا التعبير عدة مرّات، هذا الشخص وبالطبع الآلاف منهم لديهم أشياء مهمة ليفعلوها، التزامات كثيرة ومسؤوليات أكثر في الحياة، لذلك لايستطيعون إضاعة وقتهم الثمين بقراءة رواية، أو ديوان شعر، أو مقال أدبي لساعات. استنادًا إلى هذا المفهوم الواسع، قراءة الأدب هي نشاط كمالي يمكن الاستغناء عنه، لاشك بأنه يهذب النفس ويزودها بالأخلاق الحميدة وبالإحساس بمن حولها، لكنه في الأساس ترفيه، ترف للأشخاص الذين يملكون وقت فراغ. هو شيء يمكن وضعه بين الرياضات أو الأفلام أو لعبة شطرنج؛ وهو نشاط يمكن أن نضحي به دون تردد حينما نرتب “أولوياتنا” من المهام والواجبات التي لايمكن الاستغناء عنها في سعينا الحياتي الشاق.
يبدو بشكل واضح أن الأدب شيئًا فشيئًا يتحول إلى نشاط نسوي. في المكتبات، وفي المؤتمرات الخاصة بالكتّاب، وحتى في كليّات العلوم الإنسانية، نرى بوضوح أن النساء أكثر من الرجال. وهذا الأمر يُفسَّر عادةً أن نساء الطبقة المتوسطة يقرأن أكثر لأنهن يعملن لساعاتٍ أقل، لذلك يستطيع العديد منهن تخصيص وقت أكثر من الرجال لقراءة الكتب التخييلية والتفرغ للوهم. وأنا – بشكل ما – أتحسس من التفسيرات التي تفصل النساء والرجال بتصنيفات جامدة، وتنزع لكل من الجنسين طبعه الخاص ونتائج تترتب من هذه الطباع. لكن مما لا شك فيه أن قراء الأدب في تناقص، وأن غالبية الباقين من القراء هن نساء.
هذا الأمر يحدث في كل مكان تقريبًا، في إسبانيا – على سبيل المثال – كشفت إحصائية حديثة أقامها اتحاد الكتاب الإسبان أن نصف السكان لم يقرأوا كتابًا من قبل. وكشفت أيضًا أن ضمن الأقلية التي تقرأ، النساء اللاتي يقرأن يتعدين الرجال بنحو 6.2%، وهذا الفارق يزداد مع الوقت. أنا سعيد من أجل أولئك النسوة، لكني أشعر بالأسف للرجال، وللملايين ممن يستطيعون القراءة لكنهم اختاروا أن لايقرأوا.
هم يستحقون الشفقة ليس فقط لأنهم يجهلون المتعة التي تفوتهم، بل أيضًا لأني مقتنع بأن مجتمعًا بلا أدب أو مجتمعًا يرمي بالأدب – كخطيئة خفيَّة – إلى حدود الحياة الشخصية والإجتماعية هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته. أود أن أطرح تفنيدات لفكرة أن الأدب نشاط للمترفين، وعرضه كنشاط لايستغنى عنه لتشكيل المواطنين في مجتمع حديث وديمقراطي، مجتمع مواطنين أحرار.
نحن نعيش في عصر تخصص المعرفة، وذلك بفضل التطور الهائل للعلوم والتكنولوجيا، وبفضل تقسيم المعرفة إلى وحدات صغيرة وعديدة. وهذا الاتجاه الثقافي سيستمر بالنمو لسنوات قادمة. للتأكيد، فإن التخصص له منافع عديدة. فهو يسمح باكتشاف أعمق وتجارب أعظم وأكبر، وهو محرك التقدم. غير أن له أيضًا عواقبه السلبية. فهو يمحي الصفات الفكرية والثقافية بين الرجال والنساء، والتي تسمح لهم بالتعايش، والتواصل، والإحساس بالتضامن فيما بينهم. التخصص يؤدي إلى نقص في الفهم الاجتماعي، يؤدي إلى تقسيم البشر إلى جيتو1 من التقنيين والأخصائيين. إن تخصيص المعرفة يتطلب بالتالي لغة دقيقة ورموزًا تزداد غموضة كل مرة. وبالتالي، فإن المعلومة تصبح أكثر انفرادية وتشتتًا. هذا هو التخصيص والتقسيم الذي كان يحذرنا منه المثل القديم: “لاتركز كثيرًا على غصن أو ورقة، وتنسى أنهما جزء من شجرة. ولاتركز على الشجرة فتنسى أنها جزء من غابة”. الوعي بوجود الغابة يخلق شعورًا بالجماعة، شعور الانتماء، ذلك الذي يربط المجتمع ببعضه ويمنع تفككه إلى عدد لايحصى من الأجزاء بسبب هوس الخصوصية الأناني بالنفس. هوس الأمم والأشخاص بأنفسهم لم يخلق إلا الارتياب وجنون العظمة، وتشويهًا في الواقع هو مايولّد الكراهية، الحروب، وحتى الإبادات الجماعية.
في عصرنا الحالي، لايمكن للعلم والتكنولوجيا أن يكمل بعضهما الآخر. وذلك للثراء اللامتناهي من المعرفة وسرعة تطورها، والذي قادنا إلى التخصصات وغموضها. لكن لطالما كان الأدب وسيبقى واحدًا من القواسم المشتركة لدى التجربة البشرية، والتي يتعرف البشر من خلاله على أنفسهم والآخرين بغض النظر عن اختلاف وظائفهم، خطط حياتهم، أماكنهم الجغرافية والثقافية، أو حتى ظروفهم الشخصية. استطاع الأدب أن يساعد الأفراد على تجاوز التاريخ، كقرَّاء لثرفانتس، شكسبير، دانتي، وتولستوي. نحن نفهم بعضنا عبر الزمان والمكان، ونشعر بأنفسنا ننتمي لذات النوعية، لأن من خلال الأعمال التي كتبوها، نحن نتعلم مانتشاركه كبشر، وماالذي يبقى شائعًا فينا تحت كل الفروقات التي تفصلنا.
لاشيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائمًا في الأدب العظيم: أن الرجال والنساء من كل الأمم متساوون بشكل أساسي، وأن الظلم بينهم هو مايزرع التفرقة والخوف والاستغلال.
لايوجد من يعلمنا أفضل من الأدب أننا نرى برغم فروقنا العرقية والاجتماعية ثراء الجنس البشري، ولايوجد ماهو مثل الأدب لكي يجعلنا نكافئ ونمجد فروقنا بوصفها مظهرًا من مظاهر الإبداع الإنساني متعدد الأوجه. قراءة الأدب الجيد هو مصدر للمتعة بطبيعة الحال، ولكنه أيضًا تجربة لنعرف من نحن وكيف نكون، بعيوبنا وبنقصنا، من أفعالنا وأحلامنا وأشباحنا، وحيدين وفي العلاقات التي تربطنا مع الآخرين، في صورتنا العامة الظاهرة لدى الآخرين أو في تجاويف وعينا السرية.
هذا المجموع المعقد من الحقائق المتعارضة – كما يصفها أشعيا برلين – تشكل جوهرًا للحالة الإنسانية. في عالم اليوم، هذا المجموع الضخم والحي من المعرفة في الإنسان لايوجد إلا في الأدب. لم تستطع حتى فروع العلوم الإنسانية الأخرى – كالفلسفة أو الفنون أو العلوم الاجتماعية – أن تحفظ هذه الرؤية المتكاملة والخطاب الموَحَّد. العلوم الإنسانية خضعت أيضًا لتقسيم التخصصات السرطاني، وعزلت تلك التخصصات نفسها في أقسام مجزأة وتقنية بأفكار ومفرديات لايستوعبها الشخص العادي. بعض النقاد والمنظرين يودون تحويل الأدب إلى علم، وهذا ما لن يحصل أبدًا، لأن الكتابة التخيلية لم توجد لتبحث في منطقة واحدة من تجربة الإنسان. وُجدت الكتابة لكي تثري الحياة البشرية بأكملها من خلال الخيال، والتي لايمكن تفكيكها، أو تجزئتها إلى عددٍ من المخططات أو القوانين دون أن تضمحل. هذا هو معنى ملاحظة بروست حينما قال أن “الحياة الواقعية، هي آخر مايكتشف وينوَّر. وأن الحياة الوحيدة التي تعاش بكاملها، هي الأدب”.
بروست لم يكن يبالغ، أو يعبر عن حبه لما يجيد. هو كان يقدم قناعته الخاصة بأن الأدب يساعد على فهم الحياة وعيشها بطريقة أفضل. وأن العيش بطريقة أقرب للكمال يتطلب وجود الآخرين بجانبك ومشاركتهم الحياة.
هذا الرابط الأخوي، الذي ينشأ بين البشر بسبب الأدب، يجبرهم على التحاور ويوعيهم بالأصل المشترك وبهدفهم المشترك، وبالتالي فهو يمحي جميع الحواجز التاريخية. الأدب ينقلنا إلى الماضي، إلى من كان في العصور الماضية قد خطط، استمتع، وحلم بتلك النصوص التي وصلت لنا، تلك النصوص التي تجعلنا أيضًا نستمتع ونحلم. الشعور بالانتماء لهذه التجربة البشرية التراكمية عبر الزمان والمكان هو أعظم إنجاز للثقافة، ولاشيء يساهم في تجددها كل جيل إلا الأدب.
كان بورخيس ينزعج كثيرًا كلما سُئل “ماهي فائدة الأدب؟”. كان يبدو له هذا السؤال غبيًا لدرجة أنه يود أن يجاوب بأنه “لاأحد يسأل عن فائدة تغريد الكناري، أو منظر غروب شمس جميل.”. إذا وُجد الجمال، وإذا استطاع هؤلاء ولو للحظة أن يجعلوا هذا العالم أقل قبحًا وحزنًا، أليس من السخف أن نبحث عن مبرر عملي؟ لكن السؤال جيد بالفعل. لأن الروايات والأشعار لا تشبه بأي حال تغريد الكناري أو منظر الغروب، هي لم توجد عن طريق الطبيعة أو المصادفة، هي إبداعات بشرية. ولذلك فمن اللائق أن نسأل كيف ولماذا أتت إلى العالم، مافائدتها ولماذا بقت كل هذه المدة.
تأتي الأعمال الأدبية – في البداية كأشباح بلا شكل – أثناء لحظة حميمية في وعي الكاتب، ويسقط العمل في تلك اللحظة بقوة مشتركة بين كل من وعي الكاتب، وإحساسه بالعالم من حوله، ومشاعره في ذات الوقت. وهي ذاتها تلك الأمور التي يتعامل معها الشاعر أو السارد في صراعه مع الكلمات لينتج بشكل تدريجي شكل النص، إيقاعه، حركته وحياته. حياة مصطنعة، وللتأكيد، هي حياة مُتخَيلة، صنعت من اللغة، وحتى الآن يسعى الرجال والنساء لتلك الحياة، بعضهم بشكل متكرر، والبعض الآخر بشكل متقطع، وذلك لأنهم يرون أن الحياة الواقعية لاترقى لهم، وغير قادرة على تقديم مايريدون. لاينشأ الأدب من خلال عمل فردٍ واحد، بل يوجد حينما يتبناه الآخرون ويصبح جزءًا من الحياة الإجتماعية عندما يتحول، وبفضل القراءة، إلى تجربة مشتركة.
أحد منافع الأدب للشخص في المقام الأول تكمن في اللغة. المجتمع الذي لايملك أدبًا مكتوبًا يعبر عن نفسه بدقة أقل، وأقل وضوحًا من مجتمع يحمي طريقة التواصل الرئيسية له، وهي الكلمة، بتحسينها وتثبيتها عن طريق الأعمال الأدبية. إنسانية بلا قراءة، ولايصاحبها الأدب ستنتج ماهو أشبه بمجتمع صم وبكم، ناقص الفهم وذلك لعلته اللغوية. وسيعاني من مشاكل هائلة في التواصل نظرًا للغته البدائية. وهذا يقع على مستوى الأفراد أيضًا، فالشخص الذي لايقرأ، أو يقرأ قليلًا، أو يقرأ كتبًا سيئة، سيكون لديه عائق: ستجده يتحدث كثيرًا ولكن المفهوم قليل، لأن مفرداته ضعيفة في التعبير عن الذات.
وهذا الأمر لا يعني وجود قيد لفظي فقط، ولكن أيضًا وجود قيد في الخيال والتفكير. هو فقر فكري لسبب بسيط، لأن الأفكار والتصورات التي يمكن من خلالها فهم حالاتنا لايمكن لها التكون خارج الكلمات. نحن نتعلم كيف نتحدث بعمق وبدقة وبمهارة من الأدب الجيد. لن يجدي أي انضباط آخر في أي فرع من فروع الفن ماعدا الأدب في صناعة اللغة التي نتواصل بها. أن نتحدث جيدًا، أن يكون تحت تصرفنا لغة ثرية ومنوعة، أن نجد التعبير الملائم لكل فكرة ولكل شعور نود أن نتواصل به، يعني بالضرورة أن تكون جاهزًا للتفكير، أن تُعلم، أن تتعلم، أن تناقش، وأيضًا لأن تتخيل وتحلم وتشعر. بطريقة خفية، تردد الكلمات صداها في جميع أفعالنا، حتى تلك الأفعال التي لايمكن أن نعبر عنها. وكلما تطورت اللغة، وذلك بفضل الأدب، ووصلت لمستويات عالية من الصقل والأخلاق، زادت من مقدرة الإنسان على عيش حياة أفضل.
عمل الأدب حتى على صبغ الحب والرغبة والجنس بصبغة الإبداع الفني. لم يكن الشبق ليوجد بدون الأدب. الحب والمتعة سيكونان أسوأ بحيث ينقصهما الرقة والروعة. سيفشلان في تحقيق الحالة القصوى التي يمنحها الأدب. لذلك فإني لا أبالغ حينما أقول أن الثنائي الذي يقرأ لغارثيلاسو، بترارك، جونجورا أو بودلير يقدران المتعة ويعيشانها بخلاف الثنائي الذي صار أبلهًا بمشاهدة الأوبرا الصابونية2 في التلفاز. في عالمٍ أمي، لن يتعدى الحب والرغبة ماترضى به الحيوانات، كما أنها لن تتجاوز الوفاء بالأساسي من الغرائز.
وبطبيعة الحال، لايمكن لوسائل الإعلام السمعية والبصرية أن تعلم الناس كيف يستخدمون الإمكانيات الهائلة للغة بمهارة وثقة. على النقيض من ذلك، تعمل وسائل الإعلام على الحط من قدر الكلمة إلى منزلة أقل بجانب الصورة، والتي تعد اللغة البدائية لتلك الوسائط، وتعمل أيضًا على تقييد اللغة بالتعبير الشفوي إلى الحد الذي لايمكن الاستغناء عنه بعيدًا عن البُعد الكتابي للغة. أن تصف فيلمًا أو برنامجًا تلفزيونيًا بالأدبي فهذه مجرد طريقة لبقة عوضًا عن وصفه بالممل. لهذا السبب، من النادر أن نرى العامة ينجذبون لمثل هذه البرامج. وحسب ماأعرف، فإن الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو برنامج بيرنارد بيفوت3 “فواصل عليا” في فرنسا. وهذا يقودني إلى الاعتقاد بأن الأدب ليس فقط متطلَّبًا لمعرفة كاملة باللغة واستخدام أكمل لها، بل أن مصيرها مرتبط بشكل لاينفصل بمصير الكتاب، ذلك المنتج الصناعي الذي يعتبره الكثيرون بأنه قد عفا عليه الزمن.
هذا الحديث يقودني إلى بيل جيتس، كان في مدريد منذ فترة ليست بالطويلة وزار الأكاديمية الملكية الإسبانية، والتي قد عقدت شراكة مع مايكروسوفت. ضمن أشياء أخرى، طمأن جيتس أعضاء الأكاديمية وأكد بأن الحرف “fl” لن يحذف من برامج الحاسب، كان ذلك الوعد يكفل لأربعمائة مليون متحدث بالإسبانية أن يتنفسوا الصعداء بما أن حذف حرف أساسي مثل هذا سيؤدي إلى مشاكل كبرى. على كل حال، بعد تنازله الودي للغة الإسبانية، أعلن جيتس قبل أن يغادر مقر الأكاديمية في مؤتمر صحفي أنه يتوقع تحقيق حلمه الأكبر قبل أن يموت، وهو وضع حد للورق، ومن ثم للكتب.
يرى جيتس بأن الكتب هي أشياءٌ عفا عليها الزمن. وقال بأن شاشات الكمبيوتر قادرة على القيام بمهمات الورق الذي يستطيع عملها. أصر أيضًا أنه بالإضافة إلى كونها أقل مشقة، فشاشات الكمبيوتر تأخذ مساحة أقل، وهي أسهل للتنقل، وأيضًا بأن نقل الأخبار والآداب إلى هذه الشاشات سيكون له فائدة بيئية لإيقاف تدمير الغابات، وأن صناعة الورق هي أحد أسباب التدمير. أكد أيضًا بأن الناس سيستمرون بالقراءة، لكن على شاشات الكمبيوتر، وبالتالي سيكون هناك المزيد من الكلوروفيل في البيئة.
لم أكن حاضرًا خلال خطاب جيتس، وعلمت بكل هذه التفاصيل عن طريق الصحافة. ولو كنت هناك، لأعلنت استهجاني لجيتس كونه قد أعلن بوقاحة نيته إرسالي أنا وزملائي الكتّاب إلى خط البطالة. ولكنت تنازعت معه بقوة بخصوص تحليله. هل تستطيع الشاشة حقًا استبدال الكتاب من جميع الجوانب؟ أنا لست متأكدًا. أنا واعٍ تمامًا للتطور الهائل الذي سببته التكنولوجيا الجديدة في مجال الاتصالات وتبادل المعلومات، وأعترف بأن الانترنت يؤدي لي مساعدة لا تقدر بثمن كل يوم في عملي؛ لكن امتناني لهذه الراحة لايتضمن اعتقادًا بأنه يمكن للشاشات الإلكترونية أن تستبدل الورق، أو أن القراءة بالكمبيوتر يمكن أن تفي للقراءة الأدبية. هذه فجوة لاأستطيع تخطيها. لاأستطيع قبول فكرة أن تحقق القراءة غير الوظيفية، التي لانبحث بها عن معلومة أو تواصل سريع، توفر نفس تلك الأحلام ومتعة قراءة الكلمات مع نفس الإحساس بالحميمية، ومع نفس التركيز العقلي والعزلة الروحية التي يمنحها الكتاب.
ربما يصدر تحيزي هذا لكوني لم أمارس القراءة الالكترونية، وكوني تعاملت بعلاقة أدبية طويلة مع الكتب والورق. لكني على الرغم من أني أستمتع بتصفح أخبار العالم من خلال الانترنت، لايمكن أن أذهب للشاشة لكي أقرأ شعرًا لجونجورا، رواية لأونيتي أو مقال لباز، لأنني موقن بأن أثر تلك القراءة لن يكون مثل القراءة بالورق. أنا مقتنع، بالرغم من أني لاأستطيع إثبات ذلك، بأن مع اختفاء الورق سيعاني الأدب من ضربة مهولة، وربما مميتة. كلمة “أدب” لن تختفي بالطبع، لكنها ستدل على نصوص هي بعيدة عما نسميه أدبًا هذه الأيام، كبعد الأوبرا الصابونية عن مسرحيات سوفوكليس وشكسبير.
لايزال هناك سببٌ آخر لمنح الأدب منزلته الهامة في حياة الأمم. بدون الأدب، سيعاني العقل النقدي، وهو المحرك الحقيقي للتغيير التاريخي والحامي الأقوى للحرية، من خسارة لاتعوض. هذا بسبب أن الأدب الجيد كله متطرف، ويطرح أسئلة حادة عن العالم الذي نعيشه. في كل النصوص الأدبية العظيمة، وغالبًا دون قصدٍ من الكتّاب، توجد نزعة تحريضية.
الأدب لايقول شيئًا لمن هم راضون بما لديهم، لمن يرون الحياة بما يعيشونها الآن. الأدب هو قوت الروح المتمردة، هو إعلان عدم الانقياد، هو ملجأ لمن لديهم القليل جدًا أو الكثير جدًا في الحياة. الشخص منا يبحث عن ملاذه في الأدب حتى لا يكون هادئًا ومطمئنًا. أن تركب جنبًا إلى جنب مع ذلك السائس الهزيل وذلك الفارس المرتبك في حقول لامانشا، أن تبحر على ظهر حوت مع الكابتن آيهاب، أن تشرب الزرنيخ مع إيما بوفاري، أن تتحول إلى حشرة مع غريغور سامسا، هذه كلها طرقٌ اخترعناها لنجرد أنفسنا من أخطاء وإملاءات هذه الحياة الظالمة، هذه الحياة التي تجبرنا دائمًا أن نكون الشخص نفسه بينما نتمنى أن نكون مختلفين لكي نرضي رغباتنا التي تتملكنا.
يهدئ الأدب هذا الاستياء الحيوي للحظات، لكن في هذه اللحظات الخارقة، في هذا التعليق المؤقت للحياة، هذا التوهيم الأدبي ينقلنا لخارج التاريخ، ونصبح مواطنين لأرض لا تنتمي للزمان، وبالتالي هي أرض خالدة. فنصبح أكثر حساسية، وثراء، وأكثر تعقيدًا وسعادة، وأكثر وضوحًا مما نحن عليه في حياتنا الرتيبة. عندما نغلق الكتاب ونتخلى عن الخيال الأدبي، نعود إلى وجودنا الفعلي ونقارنه بالأرض المذهلة التي غادرناها توًا. وياللخيبة التي تنتظرنا! لكن هناك إدراكًا هائلًا ينتظرنا، وهي أن الحياة المتخيَّلة من الرواية أجمل وأكثر تنوعًا، أكثر فهمًا وأقرب للكمال من الحياة التي نعيشها ونحن واعون، تلك الحياة التي تحدها الظروف وضجر الواقع. بهذه الطريقة، نرى الأدب الجيد الحقيقي دائمًا كهدام، كمتمرد، كمقاوم، هو تحدٍ لما هو موجود.
كيف لايمكن أن نشعر بالخداع بعد قراءة “الحرب والسلام” أو “البحث عن الزمن المفقود” ونعود إلى عالمنا ذو التفاصيل التافهة، عالم مليء بالحدود وبالموانع التي تقف بانتظارنا في كل مكان وفي كل خطوة لتفسد خيالنا؟ فوق مهمته لاستمرارية الثقافة ولإثراء اللغة، أكبر مساهمة للأدب في التقدم البشري (دون قصد، وفي معظم الحالات) هي تذكيرنا بأن العالم جُعل سيئًا، وأن من يدعي العكس من الأقوياء والمحظوظين يكذب، وأن الكلمة يمكن أن تُطوَّر وتكون أقرب للعوالم التي يستطيع خيالنا ولغتنا تشييدها. المجتمع الحر والديمقراطي يجب أن يحتوي مواطنين واعين بالحاجة المستمرة للكلمات التي نعيشها ونحاول – بالرغم من أن المحاولة تكاد تكون مستحيلة – أن نجعلها تشبه العالم الذي نود أن نعيشه. وليس هناك من وسيلة أفضل من قراءة الأدب الجيد لإثارة عدم الرضا عما يوجد، وتكوين مواطنين ناقدين ومستقلين عمن يحكمهم، ويمتلكون روحية دائمة وخيالًا نابضًا.
مع ذلك، أن يُسمى الأدب بالتحريض لأنه يحسس وعي المواطن لعيوب العالم لا يعني بالضرورة – كما يبدو أن الحكومات والكنائس تفكر، ولذلك أنشأت الرقابة – أن النصوص الأدبية ستثير اضطرابات اجتماعية أو تسرع نشوء ثورات. لايمكن التنبؤ بالتأثير الاجتماعي والسياسي لقصيدة أو رواية أو مسرحية، لأنها لم تصنع بشكل جماعي من عدة خبراء. تصنع هذه الأعمال من قِبل أفراد وتُقرأ من قِبل أفراد ممن تختلف استنتاجاتهم بشكل كبير عندما يكتبون أو يقرأون. لذلك من الصعب، بل من المستحيل، أن تنتج أنماطًا وردود أفعال دقيقة. فضلًا عن ذلك، قد تكون القيمة الجمالية لعمل أدبي ما سببًا في حدوث القليل من العواقب الاجتماعية. هناك رواية متواضعة4 لهارييت ستاو يبدو أنها لعبت دورًا حاسمًا في تنبيه الوعي السياسي والاجتماعي لفظاعات العبودية في الولايات المتحدة. إذًا، واقع ندرة تأثيرات الأدب لايعني أنها ليست موجودة. مايجب أن نعرفه هو أنها آثار صنعت من قِبل مواطنين تغيرت شخصياتهم جزئيًا بسبب الكتب.
فلنعد صياغة التاريخ بلعبة رائعة. ولنتخيل عالمًا بدون أدب، إنسانية لم تقرأ الشعر ولا الروايات. في هذا النوع من الحضارات الضامرة، بقواميسها الهزيلة التي تحفل بالآهات وإيماءات القرود على حساب الكلمات، من المؤكد أن بعض الصفات لن توجد. وتشمل تلك: حالم دونكيخوتي، مأساوي كافكاوي، سوداوي أورويلي، ساخر رابيلي، سادي، ماسوشي، وكلها ذات أصول أدبية. وللتأكد من ذلك، سيبقى لدينا مجانين، وضحايا جنون عظمة واضطهاد، وأشخاص بشهوة عادية وتجاوزات فاحشة، وأناس منحطين لدرجة الحيوانات يستمتعون بتلقي الألم وتسليطه. لكننا لن نستطيع أن نرى ماهو خلف هذه السلوكيات المتطرفة المحظورة من قبل قواعد المجتمعات، تلك الخصائص الأساسية في الإنسان، لم نكن لنرى السمات الخاصة بنا؛ لذلك نحن مدينون لمواهب ثيرفانتس، كافكا، أورويل، رايبليه، دو ساد، و ماسوش لأنهم استطاعوا كشفها لنا.
عندما ظهرت رواية “دون كيخوته دي لامانشا”، سخر قراءها الأوائل من هذا الحالم المتطرف كما سخرت منه بقية الشخصيات في تلك الرواية. اليوم، نحن نعرف أن إصرار ذلك الفارس ذو الوجه الحزين على رؤية عمالقة بينما كان هناك طواحين هواء، وعلى التصرف بطريقة تبدو سخيفة، هو الشكل الأعلى للكرم، وهو تعبير عن مظاهرة تجاه بؤس هذا العالم على أمل تغييره. مفاهيمنا عن المثالية والمثاليين تفوح بمعانٍ إيجابية ثانوية، لن تكون ماهي عليه، ولن تُحترم وتكون واضحة، لو لم تجسد في بطل الرواية بتلك القوة المقنعة لثيرفانتس العبقري5. يمكن أن يقال نفس الشيء عن الأثنى الصغيرة الأقرب لدونكيخوته، إيما بوفاري، والتي قاتلت بحماس لتعيش الحياة الرائعة من الفخامة والشغف، والتي عرفتها وقرأت عنها من الروايات، كفراشة اقتربت كثيرًا من ضوء اللهب واحترقت بالنار.
تلك الإبداعات لكل أولئك الأدباء المبتكرين العظماء فتحت أعيننا على آفاقٍ مجهولة لحالاتنا البشرية، جعلتنا نستطيع اكتشاف وتفهم الهوة البشرية المشتركة. عندما نقول “بورخيسي”، فإن تلك الكلمة تستحضر فصل عقولنا عن منطق الواقع وتدخلنا إلى عالمٍ مذهل، إلى عقلية دقيقة وأنيقة، غامضة وأشبه بالمتاهة بكل تلك المراجع والإشارات الأدبية، والتي لانشعر بالغرابة تجاه شخصياتها لأننا نتعرف فيها على رغباتنا الخفية وحقائقنا الحميمة الخاصة بشخصياتنا، والذي أخذت شكلها بفضل الإبداع الأدبي للويس خوسيه بورخيس. عندما نذكر “كافكاوي” يتبادر إلى الذهن كميكانيكية التركيز في الكاميرات القديمة، كل مرة شعرنا بها بأننا مهددون، كل مرة شعرنا بأنا أفراد لانستطيع الدفاع عن أنفسنا، بكل أجهزة السلطة القمعية التي سببت الخراب للعالم الحديث، الأنظمة السلطوية، الأحزاب العمودية، الكنائس المتعصبة، البيروقراطية الخانقة. من دون تلك القصص القصيرة والروايات لذلك اليهودي المعذَّب من براغ، الذي كتب بالألمانية وعاش دائمًا على اطلاع، لم نكن لنستطيع فهم الشعور بالعجز لدى الفرد المعزول، أو رعب الأقليات المضطهدة والتي تعاني التمييز، تلك المتواجهة مع القوة الطاغية التي يمكنها سحقهم والقضاء عليهم من دون أن يظهر الجلادون أوجههم حتى.
صفة الأورويلي، وهي الصفة الأقرب للكافكاوي، تعطي تنبيها لتلك السخافة الرهيبة، تلك السخافة التي صُنعت من قِبل الأنظمة الشمولية في القرن العشرين، الديكتوريات الأكثر توحشًا وتعقيدًا في التاريخ، في تحكمهم بأفعال وأحاسيس المجتمع. في رواية 1984، وصف جورج أورويل في جو بارد موحش تلك الإنسانية المحكومة للأخ الأكبر، الحاكم المُطلق، والذي بواسطة مزيج مخيف من الرعب والتكنولوجيا، محق الحريات والمساواة والعفوية، وحول المجتمع إلى خلية نحل من البشر. في هذا العالم الكابوسي، طوِّعت اللغة لصالح السلطة، وحُولت إلى “خطاب جديد”، خالٍ من أي ابتكار وموضوعية، ممسوخ إلى سلسلة من التفاهات التي تضمن عبودية الفرد للنظام. صحيح أن نبوءة 1984 لم تمر حتى الآن، والشيوعية الشمولية في الاتحاد السوفيتي ذهبت مع الفاشية الشمولية في ألمانيا وأماكن أخرى، وبعد ذلك بوقتٍ قصير بدأت تتداعى في الصين، وفي كوبا وكوريا الشمالية اللتين تنتميان للماضي. لكن الخطر لم يُمْح بعد، وكلمة “أورويلي” ستبقى لتصف الخطر، ولتساعدنا على فهمه. عالم من دون أدب سيبقى أعمى عن هذه الأعماق الخطرة، والتي نحتاج أن نراها في أسرع وقت.
عالم غير حضاري، بربري، يخلو من العاطفة وذو خطاب جلف، جاهل ومأساوي، من دون شغف وجلف في الحب، هذا العالم من دون أدب، هذا الكابوس الذي أحذر منه وأرسم معالمه، سيكون سمته الأساسية الانسياق وتسليم عالمي لبني البشر إلى السلطة. بهذا المنطق، سيكون عالمًا حيوانيًا. الغرائز الأساسية لدى الإنسان ستحدد مشواره اليومي باتجاه سد الجوع والشقاء لكي يبقى، ستحدده بالخوف من المجهول وإشباع الحاجات المادية. لن يكون هناك مكان للروح في هذا العالم. وفوق ذلك، رتابة العيش المسحوق ستولد الإحباط وستلقي بظلال شريرة للتشاؤم، الشعور بأن الحياة البشرية ماكان لها أن توجد، وأنها ستكون هكذا دائمًا، وأن لاأحد يمكنه تغييرها.
عندما يتخيل الواحد منا هذا العالم، تقفز إلى ذهنه تلك المجتمعات الصغيرة التي يختلط فيها الدين بالشعوذة، والتي تعيش على هامش التطور في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأوقيانوسيا. ولكن فشلًا مختلفًا يخطر في بالي. الكابوس الذي أحذركم منه لن يكون نتيجة قلة التطور، بل سيكون نتيجة التحديث والتطوير المفرط. نتيجة للتكنولوجيا وتبعيتنا لها، قد نتصور مجتمعًا في المستقبل وهو ممتلئ بالشاشات والسماعات، ومن دون كتب، أو في مجتمع يعتبر الكتب – وأقصد هنا الأعمال الأدبية – ماكانوا يعتبرون الخيمياء: ذلك الفضول القديم، والشيء الذي يُمارس في سراديب ومقابر حضارة الإعلام من قِبل أقلية عُصابية ومضطربة. وأخشى أن هذا العالم المعرفي، على الرغم من ازدهاره وقوته، وهذا المعيار العالي من المعيشة والإنجاز العلمي، من شأنه أن يكون غير متحضر بعمق وسيكون خالي الروح. ستكون إنسانية آلية تركت تلك الإنسانية التي تخلت عن الأدب.
ليس من المرجح، بالطبع، أن هذه اليوتوبيا المروعة سوف تأتي. نهاية قصتنا ونهاية التاريخ لم تكتب بعد، ماسيأتي لاحقًا مرهون برؤيتنا وبإرادتنا. ولكن إن أردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، فيجب أن نتصرف. وبعبارة أدق، يجب أن نقرأ.
=====================
ترجمة: راضي الشمري
مراجعة: فيصل الحبيني.
—————-
هوامش
1- هو اسم لأحياء اليهود القديمة في أوروبا، والتي كانت توصف بالعشوائية والضيق.
2- هي مسلسلات كانت تعرض على التلفاز، سميت بالصابونية لكثرة إعلانات الصابون التي كانت تتخللها.
3- هو صحافي وإعلامي فرنسي، متخصص في تقديم البرامج الثقافية في فرنسا. ويشغل حاليًا رئاسة أكاديمية الغونكور، صاحبة أرفع جائزة أدبية فرنسية.
4- رواية “كوخ العم توم”، ترجمت للعربية عن طريق منير البعلبكي.
5- يشير يوسا هنا إلى تغير قراءة الناس للأدب عبر الزمن، فتأمل!


الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

" لم نحلم بأشياء عصية "

مع البدايات نحتاج كثيرا لأن تُمزج بالحب لنتقوى به ونخطو عتبتها إلى ما هو بعدها ، يقيننا به يبلغ العنان ومع تكرار الخيبات والخذلان لا نلومه بل نظل نتشبث بأمل القرب والوصل ، كلما استحال علينا تمسُكنا به يشتد وفي الأخير نجدنا قطعنا شوطا كبيرا في الدرب ، ابتعدنا عن البدايات ودخلنا التجربة ، تم اختبارنا ، لا يهم ايا كانت النتيجة ولكن عبء التجربة لم يكن هين ، خضنا الدرب وحيدين وحينما ننظر إلى هذا الحب لا نجده حمانا مما نخاف ، لا نجدنا تقوينا به ، لا نجده رَبَت على اكتافنا حينما كان أقصى أمانينا كف تذوّب تلك القسوة وتخفف عبء الحِمل الثقيل.
خوض التجربة أكسبنا (قسوة) وأفضل تسميتها هكذا وليست (صلابة) لأن الوحدة التي أصبحنا عليها أصبحت توصمنا بالخذلان والهروب والإغتناء عن المقربين مقابل أنانيتنا طالما مازلنا ندعي آماننا في تلك الوحدة واكتفائنا بها. تلك (القسوة) لنشد على الآخرين عند اتهامهم لنا ، حتى لا نبرر وحدتنا ولا نعطيهم حتى سبب واحد بلومهم بأنهم لم يتفهمونا كفاية ولم يحتوا ألمنا ، كانوا بالفعل مقربين بالمعرفة _ بأنهم يعرفوا ثِقل التجربة_ لكنهم ليسوا مقربين بحمل العبء معنا.
تلك القسوة المكتسبة هي المفتاح الذي سيجعلنا نخوض التجارب التالية ونحن نثق في أنفسنا كفاية بأننا جديرين بخوض القادم. الذعر هو ما جعلنا نبحث عن الآخرين لتسكيننا ولكن عندما لم نجد السكن عندهم ووجدنا أنفسنا نسير نحو الهاوية بذلك الذعر من كابوسية النهايات وانه ليس هناك مفر مهما حاولنا و"طرقنا كل جدران الخزان"  مع تغيير المسار والانفراج الأخير فلن نجد أفضل من أنفسنا نسكن إليها ، سنجد أنه لم نكن بحاجة للأخرين فهم ليسوا بتلك الأهمية التي تصورناها يوما ما !

ربما ليس أشرس شيء ممكن أن تقابله هو شدة عليك تجاوزها وليس أمامك أي سبيل أو شيء تقدمه لتنفرج أو لتساعد على انفراجها ، ربما وقت الشدة ستتخيل ذلك انها الأسوأ لأن ما تحمله من خوف وصل بك حد ما تصفه الآية " حتى إذا بلغت القلوب الحناجر " هكذا كنت دائما ما أصف لأختي احساسي بأني أشعر بأن قلبي "محشور" في حلقي كما لو اني سألفظه ! حتى داهمتني في أقسى لحظات الإنتظار استدعاء تلك الآية فجأة حتى وجدتها تفصح بشكل بليغ عن لحظات ذعري تماما.
وقتها ظننت ان كل ما سيأتي بعد سيهوّن تلك اللحظات أو لأكون صادقة كفاية تلك السنة والنصف من الإنتظار المميت !
لكن الإحساس الذي تلاها وما اشعر به الآن هو حالة من الخواء التام ، أشبه بصوت الريح عندما تمر من انبوب مجوف فنسمع صفيرها المدوي ، لا شعور على الإطلاق ، ليس الأصعب ما ممرت به بل ما انا مقبلة عليه ، الأول عمل على تعطيل حياتي تماما من أجل شيء آخر أهم وأكبر ودفعني لأدفع ثمن لا يخص إخفاق أو فشل خاص بي ولكن هذا ما اقتضته الظروف ، لأجدني أواجه ما كان المفروض أواجهه لو تم ترتيب الأحداث التي كنت سأمر بها في سياقها الطبيعي ولم يتدخل القدر.

سأصنع نفسي ....
جملة عند كتابتها تمتلك من الإبداع والقوة والإقدام ما يجعلها جميلة في حد ذاتها ، فلأكررها مرة أخرة (سأصنع نفسي) ، تلك الجملة هي سبب ضياعي التام ، هي سبب مرحلة الضباب والوجوم التي أعيشها ، جملة أستطيع أن أضع أمامها كل أدوات الإستفهام وأقف عاجزة عن إجابتهم ، كيف سأصنع نفسي ؟ لماذا سأصنع نفسي ؟ متى سأصنع نفسي ؟ أين سأصنع نفسي ؟ ما الذي سأصنع نفسي منه ؟
قدر مخيف وانت تبدأ الخطوات الفعلية لتؤسس انت بعد خمس ، عشر ، عشرين والخ الخ من الأعوام ويقابله كل هذا الضياع أمام البدايات والإستقرار على ما تود كونه ، تعرف العديد من البدايات لكنك في كل واحدة منهم ينقصك شيء ما خارج عن طاقتك ، حتى في أكثر الأمور استقرار لديك أصبح ينقصك نفس الشغف والحماسة التي كنت تملكها بينك وبين نفسك.
تتسائل هل هذا الإنهاك الذي تشعر به الآن ناتج عن خوض تلك التجربة التي بالفعل غيرتك ، وفقدان هذا الشغف وضباب الرؤية هو نفسك الجديدة التي تلح بفرض نفسها وانت تكبح ظهورها بتمسكك بشغفك القديم حتى ان كنت لا تعرف هل هذا هو حقا ما تريده ام لا أو ليس هكذا تحديدا هل حقا ستحقق النجاح أو الإبداع فيه الذي كنت تريده أم لا !

صخب احتكاك قائمة ما تود فعله يتنافس بداخلك وتقابله انت بكل عدم الشعور الذي أصبحت عليه لا اريد الآن لا استطيع !

** العنوان مقتبس لـ محمود درويش / لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي

" ولنا أحلامنا الصغرى, كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة لم نحلم بأشياء عصية نحن أحياء وباقون وللحلم بقيةْ "


السبت، 19 يوليو 2014

بعض من مذكرات شارلي شابلن

* إن هذا الاتجاه نحو تصوير الفقر في صورة جذابة للآخرين أمر يبعث على الضيق. فلا انا عرفت حتى الآن رجلا فقيرا يحن الى الفقر أو يجد فيه حريته. ولا المستر "موم" يستطيع ان يقنع أي فقير بأن الشهرة والثراء الفاحش يعنيان القيود.
انني لا اجد قيد على الاطلاق في الثروة، بالعكس اجد فيها كثيرا من الحرية. ولست اظن ان "موم" يرضى بان ينسب مثل هذه الأفكار الزائفة إلى أية شخصية من رواياته ولو في أقلها شأنا.
فالقول بأن ( مناظر شوارع الحي الجنوبي في لندن تمثل البهجة والمرح والانطلاق في المغامرة ) قول يحمل طابعا من الميوعة والخفة يليق بماري انطوانيت !

انني لا ارى الفقر جذابا ولا بانيا للشخصية. فالفقر لم يعلمني شيئا غير تشويه القيم والمقاييس والتقدير المبالغ فيه لفضائل ومحاسن الأغنياء والذين يطلق عليهم صف الطبقات الأرقى.
اما الثروة والشهرة فإنهما على العكس قد علماني ان ارى العالم رؤية صحيحة وان اكتشف حين اقترب من البارزين من الرجال ان لهم نقائصهم الخاصة مثلنا جميعا. كما علمتني الثروة والشهرة ايضا ان انظر الى العلاقات العريقة المرسومة على السيوف والعصى وسياط الركوب باعتبارها نوعا من الادعاء، وان ادرك زيف اللهجة الجامعية كمقياس لذكاء الإنسان وجدارته ومدي الأثر المدمر لهذه الخرافة المحفورة على عقول الطبقة الوسطى الانجليزية. وان اعرف ان الثقافةليست بالضرورة نتيجة للتعليم أو معرفة الكلاسيكيات.

وبالرغم من افتراضات "موم" فأنا ككل انسان آخر لست إلا أنا. فرد قائم بذاته، مختلف عن غيره، له حوافز ونوازع ممتدة إليه عبر خيط وراثي قديم وتاريخ شخصي من الأحلام والرغبات والتجارب الخاصة ، أمثا أنا حصيلتها الكلية .


*  إني لأدرك أن الأيام والظروف قد جاملتني. وانني تغلغلت في عواطف العالم، وجربت حبه وكراهيته. نعم، ولكنه منحني الكثير من الحب والقليل من الكراهية. ومهما كانت قرارتي فانني أؤمن بأن الحظ والسوء يهبطان على الانسان اعتباطا كالسحب. ولأنني أعلم ذلك فإنني لا أصدم ابدا بما يصيبني من سوء واستقبل ما يصيبني من خير كمفاجأة أرحب لها. وليست لي خطة معينة اعيش بها أو فلسفة .. فنحن جميعا عقلاء وحمقى ومرغون على صراع الحياة !
وموقفي تجاه المصاعب لا يلبث على حال، ففي بعض الأحيان تثيرني أشياء تافهة، وفي بعض الأحيان أواجه الكوارث بغير اكتراث .. على أن حياتي الآن اكثر اثارة مما كانت في أي وقت مضى. فأنا في صحبة طيبة، ومازلت قادرا على الخلق، ولدي مشاريع لانتاج مزيد من الأفلام. قد لا اظهر فيها ولكن اكتبها واخرجها لأفراد أسرتي وبعضهم يملك مواهب مسرحية لا بأس بها.

ثم انني ما ازال بالغ الطموح ولن اعتزل على الإطلاق. فهناك اعمال كثيرة احب ان اقوم بها بالاضافة إلى ما عندي من سيناريوهات سينمائية تحتاج ان تستكمل، فانني اود لو اكتب مسرحية واوبرا اذا سمح الوقت.

ولقد قال شوبنهاور ان السعادة حالة سلبية ولكنني لا اوافقه. فأنا قد عرفت طوال الأعوام العشرين الماضية ماذا تعني السعادة