السبت، 31 مايو 2014

عابريّن في المقهى .. قصة قصيرة

رأيتهما مقبلين علي من بعيد ، تتشابك أيديهم كما يفعل العشرات غيرهم ممن يأتون إلى المقهى يوميا في كل ساعة. كانت ترتدي هذا اللون الروز الخفيف الذي يكسو وجهها بمسحة رائقة للغاية تبدو هادئة وخجولة وفي عينيها لمعة الإبتسامة المطمئنة. هو أطول قليلا يتقدم في خطوته عنها بخطوة كما لو انه يريد الإسراع بالقدوم إلى المقهى ربما ليستريح بعد مشوار طويل قضياه سويا بالخارج. اتخذا طاولة بجانب الباب الزجاجي المطل على الشارع واختارت هي الكرسي المواجه لتلك الواجهة الزجاجية وهو قبالتها. كان المقهى هادئا قليلا من الزبائن فتقدمتُ بعد فترة قصيرة من جلوسهما لأسألهما عما يريدانه طلبت هي عصير الفراولة باللبن مع كثيرا من السكر وهو قهوة مظبوط. أعددت ما طلباه وذهبت إليهما كانا منهمكين في الحديث لا أدري عن أي أمر تحديدا فلم تتسلل لأذني بعض من كلامهما ولكنها كانت كثيرة الإبتسام والإماءة برأسها. توقفا قليلا ريثما أعددت الطاولة وحييتهما بإبتسامة ترحاب وذهبت لأجلس في ركن أمام التلفاز لأتابع أثر اليوم الثاني للعملية الإنتخابية على قناة السي بي سي مع مدام لميس الحديدي تلك المرأة المنفعلة بغلاظة والمعلقة دوما على ما تعرف ومالا تعرف.
تعلقت عيناي بهما قليلا حيث كانت تخرج من حقيبة يدها كتاب مصور أخذت تريه فيه عدد من الصور معلقة بإسهاب على كل واحدة منها وهو يتابع معها منتبها لما تقول وعينيه تتأمل ما تريه إياه، هي تحكي بشغف جم وتحرك يديها كثيرا شارحة وضاحكة وهو يبدو متفهما تماما. تحولت مرة ثانية للتلفاز محاولا تركيز انتباهي ولكني نفرت كثيرا من المتابعة وأصابني الملل اختلست النظر إليهم مرة ثانية فكانا مازالا منهمكين في الحديث كما لو ان الوقت متوقف عندهم لا يشغله غيرهما. وجودهم أضفى الحميمية للمكان فهناك بعض الزبائن الجالسين بمفردهم ضجرين يأكلهم الملل وينفثوا كسلهم في الدخان المندفع من أنوفهم وأفواههم. أما هم فمتناسين ما حولهم يوزعون تلك الإبتسامات بسلاسة امتلكت قلبي بعفوية جعلتني شديد الألفة بوجودهم.
تلك الألفة اخذتني لتلك الأيام القديمة في قريتي التي وفدت منها لأبحث عن عمل هنا يساعدني على قضاء حاجات أمي وأخوتي البنات بعد ضيق الحال بهروب والدي مع تلك المرأة التي عشقها وباع الكل من أجلها. وجدنا أنفسنا فجأة وحيدين ومرتبكين ماذا نفعل وكيف سيكون الحال. اتفقنا ضمنا بيننا على أن نتحايل على الأمر بعدم ذكره مرة ثانية وأن نستعين بغيابه على نسيانه كأنه لم يكن يوما في حياتنا. ذلك الأمر الذي فررنا منه جميعا كل إلى ذاته وانا حيث قادتني قدماي إلى هنا.
نعم كانت حياتي في بلدتي هادئة قبل تلك الحادثة وكنت أنعم بألفة مماثلة وسط الأهل وكانت لي تلك الفتاة التي أحببتها منذ صغري لا استطيع ان أقول ان علاقتنا كانت تشبه الجالسان امامي بالطبع ولكني كنت اطمئن بوجودها كانت حلمي الحقيقي الذي هربت إليه في كل لحظات الضيق والضجر ومنيت نفسي يوما أن يستقر بي الحال بجوارها نأنس سويا. كنت أعشق الرسم والألوان كما لو انني أكسو كل ما اقابله بلون يجعله مفعم بالحيوية والبهجة. رسمت كثيرا من الأشخاص متحايلا على حقيقتهم لأجعل منهم أشخاص سعداء. نعم كان بعضهم عابس ومنهم من حفر الزمن في وجهه خطوطه وتشققاته تاركا أثره القاسي عليهم ولكن بتلك الألوان جعلتهم أكثر حقيقية مما هم عليه لم تعد وجوههم باهتة بل كانت مشرقة بفخر محبب للنفس تعتز به. حبيبتي كانت على الورق جميلة ونضرة ولكنها في الحقيقة أجمل وأجمل هناك جمال خفي مهما حاولت إبرازه بالألوان لا تستطيع الإمساك به يفاجئك بخطفة سريعة في القلب مع النظرة الأولى تاركك بعدها مرتبكا.
اتخيل الآن لو أن إحدى رسوماتي لها تسللت لذلك الكتاب المصور امامهما لكانت حكت عن جمالها بنفس هذا الشغف وتلك الإبتسامة وربما اكثر ولربما جلستُ معهما احكي انا بالنيابة عنها وأشرح لهم مالم يستطيعون أن يروه فهم لا يعرفونها مثلي. أحكي عن تلك العيون العسلية الخجولة حين تنظر إلي وتشيح بوجهها سريعا ، عن سر تلك الخصلات الأمامية لشعرها والتي لا تنتبه انهم مكشوفين أسفل حجابها الذي يتواطؤ معي ليُزاح قليلا على غفلة منها وهي مشغولة بعمل ما فأتابعهم خلسة وأصورهم بألواني كخصلات الخيول النافرة.
بعيني المركزة عليهما وعقلي السارح بعيدا رأيتُ إشارة من يده طالبا الحساب. ذهبتُ مسرعا وودعتهم بسلام أكن له في داخلي كثيرا من الإمتنان. راقبتهما إلى أن مضيا بعيدا عن المقهى.
أحن لتلك الأيام وأحن إليها كثيرا ربما في يوم نجتمع سويا وندخل ذات مقهى متشابكين الأيدي كالعشرات الذين أراهم هنا وننسى كل ما حولنا ويسرقنا الوقت فلا ننتبه له ولانوليه بالا ونجبره نحن بدورنا أيضا أن يتوقف عندنا قليلا فلقد أنهك قلوبنا طول السفر.